السبت، 27 يناير 2018

كيف اختفى أمازيغ موريتانيا؟


كيف اختفى أمازيغ موريتانيا؟

رغم أن موريتانيا تنتمي إلى الفضاء المغاربي فهي تختلف عنه في بعض التفاصيل، ومن تلك التفاصيل غياب الإشكالية الأمازيغية في السجال المحلي حول الهويات.

حين يدور الحديث عن الهوية الموريتانية، نسمع عن المكوّنين الإفريقي والعربي. حتى الدستور الموريتاني لا يأتي على ذكر اللغة الأمازيغية، فتقول المادة السادسة منه: "اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية. اللغة الرسمية هي العربية". أما الجديد في نقاشات الهوية الموريتانية، فهو خروج أصوات تنتمي لفئة الحراطين ("العبيد" السابقين) وطرحها اعتبار هذه الفئة قومية ثالثة في البلد. ولكن لا شيء عن الأمازيغ.
"اختفاء" أمازيغ موريتانيا؟

واقع الحال يولّد انطباعاً بأن الأمازيغ (البربر، كما يسميهم البعض) لم يمروا من قبل في الفضاء الموريتاني. ولكن استنتاجاً كهذا تخالفه بعض المؤلفات والأبحاث (أغلبها أجنبي) وبعض السرديات التاريخية التي تؤكد أن الفضاء الموريتاني كان أمازيغياً وأن الكثيرين من عرب موريتانيا يتحدرون من أصول أمازيغية لكنهم تنكروا لتلك الأصول وألحقوا أنفسهم بالنسب العربي.

واليوم، نجد أن الكثير من القبائل الموريتانية ألحقت نفسها بالصحابة والتابعين بل وحتى نسبت نفسها للرسول مع أن هناك من لا يزال يتمسك بأصوله الصنهاجية أو الأمازيغية. لا بل قد يؤدي الحديث عن وجود أصول أمازيغية أو غير عربية لبعض المكونات الموريتانية إلى امتعاض أبناء هذه المكوّنات وتنكيلهم بصاحب مثل هذا الحديث كونه خطاً أحمر و"تابو" يحرّم الاقتراب منه.

على سبيل المثال، تعرّضت الباحثة خديحة بنت الحسن لاعتداء بسبب أبحاث قامت بها. كذلك تعرّض للمضايقة المؤرخ المختار بن حامدن للسبب نفسه. فالغالبية اختارت أن تتعرب وتقطع الصلة بالهوية الأمازيغية. وليس الأمازيغ وحدهم من تضرر في الفضاء الموريتاني، فهناك هويات أخرى قديمة انسحقت واختفت أيضاً وتعرضت للنسيان كاليهودية والغجرية والبقايا الزنوجية لما قبل عبودية القرن التاسع عشر.

ما الذي حدث بالضبط حتى حلت الثقافة واللغة العربية الحسانية محل الأمازيغية في الفضاء الموريتاني؟ وماذا تبقى من الوجود الأمازيغي في موريتانيا؟
تاريخ الأمازيغ في موريتانيا

قال لرصيف22 الباحث الموريتاني في قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة أريزونا الأمريكية أبو العباس أبرهام: "من الواضح للمؤرخين أن الأمازيغ الصنهاجيين كانوا بلا مواربة السكان المعياريين لشمال ووسط المجال الموريتاني منذ ما قبل الميلاد إلى أن تغيرت هويتهم اللغوية والثقافية بفعل التحوُّلات السيادية والانتاجية والنسبية التي تلت عصر ما سماه بعض المؤرخين بالفتح العربي".

وأضاف: "حتى نشأة رأسمالية السواحل بدءاً من القرن السابع عشر وما بعده، والتي ساهمت في صهر المجال الصحراوي في هويات موحدة على أسس تسويقية وإنتاجية جديدة، ظلّ هؤلاء السكان الأمازيغ الأكثر كثافة، وإن بدأوا منذ القرن السابع عشر في تقديم أصول نسبية مختلفة، عربيّة غالباً، للتماشي مع المعطيات السيادية واللسانية الجديدة ومع مضامينها الفخرية والتمايزية والتراتبية".

وتحدث أبرهام عن بعض الشواهد التاريخية لكتابة تيفيناغ الأمازيغية وقال: "إن أبجدية تيفيناغ، التي وُثِّقت بها اللغات الأمازيغية المغاربية والصحراوية والموجودة في الشواهد الآثارية الموريتانية، تُظهر لنا أن لغة الأمازيغ في المجال الصحراوي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل. ولكنها رغم ذلك، وخصوصاً في القرون الوسطى، لم تعش بدون احتكاك مع بقية لغات المجال. ولعلّ اللغة الآزيارية التي تدل الآثارُ على أنّها بقيت لغة منطوقة في نواحٍ واسعة من المجال هي لغة بينية مولّدة بين السنونكية واللغة الصنهاجية".
قدوم العرب

وتجدر الإشارة إلى أن الفضاء الموريتاني شهد بداية القرن 14م (8هـ) توافداً كبيراً لقبائل بني حسان العربية المتحدرة من قبائل المعقل، وذلك ضمن الهجرة الهلالية، إلى شمال إفريقيا. وقد استطاعت هذه القبائل أن تفرض سيطرتها السياسية والعسكرية على المناطق التي سيطرت عليها وعلى السكان الأصليين.

في كتابه "الرسالة الغلاوية"، وهو تحقيق ودراسة للرسالة الغلاوية للشيخ سيدي محمد الخليفة الكنتي (توفي سنة 1242هـ)، يقول الباحث الموريتاني حماه الله ولد السالم، أستاذ التاريخ في جامعة نواكشوط: "استطاع بنو حسان، بعد مسار تاريخي معقد، أن ينشروا لهجتهم العربية الملحونة الحسانية على كافة البوادي والمدن، حيث اختفت، تقريباً، اللهجات الأمازيغية الخالصة مثل الصنهاجية وانقرضت اللهجات الأمازيغية السودانية المشتركة مثل اللهجة المسماة: كلام أزير (الأزيرية) وهي مزيج من اللهجة الصنهاجية واللهجة الصوننكية (السودانية)".

وفي الكتاب نفسه، يتحدث عن تحول في بعض العادات والمظاهر، ويقول: "نشر بنو حسان عادات تناقض موروث الأمازيغ الصحراويين: مثل إطالة شعر الرأس بدل حلقه، وحسر اللثام بدل التزامه". ويضيف: "السؤال المحوري في العصر الحساني هو لماذا تخلت قبائل صنهاجية عن أنسابها وتاريخها وتنكرت لهما كلياً؟".

ويتابع: "لا نعرف بالضبط التاريخ الذي أصبحت فيه اللغة العربية الدراجة المسماة حسانية شائعة في البلاد الموريتانية. لكنّ الراجح أن ذلك تمّ بشكلٍ تقريبي في القرن 14م (8هـ) لكنه لم يصبح واضحاً إلا في القرن 17م (11هـ) بعد أن أكملت القبائل الحسانية سيطرتها على الإقليم وأخمدتْ كلّ مقاومةٍ من السّكان الأصليين. وقد تخلى السكان القدماء عن لهجاتهم الأمازيغية لمصلحة لهجة عربية مضرية متأخرة هي الحسانية المنسوبة لقبائل بنى حسان".

ويذكر ولد السالم أن البعض يعتبر العامل السياسي سبباً لحلول اللهجة الحسانية مكان اللغة الصنهاجية، ويقول: "يرى أصحاب هذا الطرح أن شدة وطأة العرب الحسانيين وبطشهم بالسكان المحليين وتنكيلهم بالمهزومين رغم المقاومة التي أبدوها لمدة قرون، هذه العناصر كلها بثت الرعب من العرب في النفسية الصنهاجية ورسخت حالة من التقية الضرورية للتعامل مع السادة الجدد".
تأثر وتأثير

ويرى الباحث أبو العباس أبرهام أن اللهجة الحسانية لم تلغِ بشكل كلي اللغة الأمازيغية في موريتانيا بل تأثرت بها وحوّرتها وحوت مع الزمن جزءاً منها. وقال: "لم تحل الحسانية كلغة عامة في المجال الصحراوي إلا في إطار إذاعة النموذج الاجتماعي السياسي الذي أتى مع بني حسان، وإن لم ينشأ فقط معهم. وقد ظهرت الحسانية كلغة متولِّدة من الصنهاجية والعربية (سواء الأعرابية الحسانية التي قدمَ بها بنو حسان أو العربية العلمية والمدرسيّة التي تبحّر فيها لاحقاً الزوايا ذوو الأصول الصنهاحية)، مع أن الصنهاجية فيها قد لا تزيد على نسبة 20 إلى 30 بالمائة. وهي نسبة تحوي غالباً مصطلحات مكانية وظروفية نحوية لم تكن معهودة في لغة بني حسان".

وأضاف: "تزيد نسبة اللغة الصنهاحية في الحسانية أو تنقص باختلاف الجهة والمجموعة، وهو ما يعطينا فكرة عن تفاوت الهيمنة الثقافية الحسانية من مكان إلى آخر. لم تكن علاقة الحسانية بالصنهاجية علاقة نفي، بل علاقة استناد خصوصاً في تبني مصطلحات الأمكنة والتضاريس والحياة البرية. كما أخذت الحسانية من الصنهاجية القديمة أنماطاً شعرية وغنائية وأنظمة قرابية وجنوسية".
جيوب أمازيغية باقية

رغم المتغيرات ومرور قرون على الوجود العربي وسيطرته على الفضاء الموريتاني وتحول معظم أصحاب الأصول الأمازيغية إلى العروبة واختيارهم أصولاً عربية، فإن ذلك لم يمنع بقاء جيوب للغة الأمازيغية في موريتانيا. وتتركز هذه الجيوب أساساً في مناطق الغرب الجنوبي من موريتانيا، وقد تحدثت عنها الجامعة الأمازيغية للحركة الشعبية في اجتماع عقدته في المغرب في 12 اكتوبر 2013.

ويقول الباحث عباس أبرهام: "تخبرنا المصادر الاستعمارية الغربية والقبلية الموريتانية في مطلع القرن العشرين، بشكل تأريخي وتدريجي، عن وفيات أواخر الناطقين بالصنهاجية أو الآزيارية في معظم القبائل الشرقية والوسطية ذات الأصول الصنهاجية، أما في بعض قبائل الغرب الجنوبي والساحلي فقد بقيت نواة ناطقة بالصنهاجية، وهي غالباً مجتمعاتٌ عُزلت عن المجال العمومي ما قبل الوطني نتيجة لتحييدها من قبل المحاربين الحسانيين أو نتيجة لاعتزازها الهوياتي بلغة أسلافها وتوظيفها لهذه اللغة كإطارٍ أمني وثقافي بديل".

لكنّ هناك أصواتاً تتحدث عن قرب اختفاء ما تبقى من حضور للغة الصنهاجية، أو كلام أزناكة حسب التعبير المحلي في موريتانيا، فقد قامت لجنة القضاء على التمييز العنصري (CERD) التابعة لليونسكو بإدراج "كلام أزناكة" كلغة مهددة بالانقراض في تقريرها لسنة 2009، ووصفت وضعها بالخطير جداً.

وفي حوار مع موقع Tawiza تحدث فتحي بن خليفة، الرئيس السابق للكونغرس الأمازيغي العالمي، عن اتصالات مع أمازيغ موريتانيا وعن وجود نية لتأسيس أول جمعية أمازيغية في موريتانيا وقال: "فتح الكونغرس قنوات اتصال مع أمازيغ موريتانيا، وهناك نخب أمازيغية موريتانية في كل المجالات وقريباً سيتم الإعلان عن تأسيس أول جمعية أمازيغية في موريتانيا، كما حدث في تونس أخيراً".

ومعروف أن موريتانيا تشهد الآن حالة من الحراك ذي الطابع الفئوى، مثل حراك الحراطين (العبيد السابقين) وحراك المعلمين (طبقة الحدادين والمشتغلين في مجال الحرف اليدوية) كما تشهد نقاشات ذات طابع جهوي. لكن لم تظهر أصوات قوية تطالب بوضع الإشكالية الأمازيغية على طاولة النقاش أو إحياء الهوية الأمازيغية.


الخميس، 25 يناير 2018

الأمازيغ وانتشار قبيلة هوارة الأمازيغية في صعيد مصر والسودان


الأمازيغ وانتشار قبيلة هوارة الأمازيغية في صعيد مصر والسودانقال ود دوليب في مخطوطته الي كتبها عام 1680م "أصل السودان أهل الوطن: النوبة والحبشة والزنجُ ثم أول داخل عليهم البربر... والقبائل العربية في السودان أجنبية اختلطت بالقبائل المذكورة وتكاثرت معهم"

الأمازيغ (البربر)ارتبطت المناطق الصحراوية الواقعة غربي النيل بين الواحات المصرية شمالاً وكردفان ودارفور جنوباً ارتباطاً طبيعيّاً بنهر النيل منذ البدايات المبكرة لحضارات المنطقة. فقد أدت التغيرات المناخية الذي حدث بالتدريج خلال السبعة ألف سنة الماضية وأدت إلى جفاف تلك المناطق وتكوين الصحارى الحالية إلى توالي الهجرات عبر العصور نحو وادي النيل. ولذلك ارتبطت صلات قبائل الصحراء الأمازيغية (البربر) بالسودان منذ بداية تاريخه القديم. وقد تناولنا تأثيرات المناخ على تاريخ المنطقة في الفصل الأول من الجزء الأول من كتاب الوعي بالذات وتأصيل الهوية.

اسم البربر ورد في التراث الشعبي العربي كما روى ابن خلدون (العبر ج 6 ص 89) أن افريقش ملك اليمن عندما غزو شمال افريقيا وجدوا سكانه يتكلمون بلغات مختلفة وغير مفهومة، فقال لهم: "ما أكثر بربرتكم فسميوا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الاصوات غيرالمفهومة" وذكر ابن خلدون (العبر ج 6 ص 93) "ان البربر من ولد حام بن نوح بن بر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح" ومن هنا جاء اسم الأمازيغ.

غير أن اسم البربريرجع إلى وقت سابق لدخول العرب شمال افريقيا، فقد أطلق اليونانيون والرومان على الشعوب خارج نطاق حضارتهم اسم برابرة (barbarians) فعرف سكان الصحراء الكبرى بالبربر. وعند دخول العرب المنطقة عربوا الاسم القديم وأطلقوا على السكان اسم البربر. وقد انتشر (البربر) الأمازيغ في مصر بأعداد كبيرة منذ القرن الحادي عشر الميلادي.

الأمازيغ في صعيد مصرسكنت قبائل الأمازيغ في صحراء مصر الغربية وواحاتها منذ العصور القديمة، فقد ذكر أوريك بيتس (Oric Bates. The Eastern Libyans. P 70) أن مناطق قبيلة لواتة الأمازيغية على الواحات والمناطق الصحراوية القريبة من النيل. وقد ورد في المصادر العربية ما يوضح استقرار بعض قبائل الأمازيغ مثل لواتة وهوارة في مصر وبخاصة بعد انتقال مركز الفاطميين من المغرب إلى مصر في القرن الحادي عشر الميلادي.
ثم ازدادت أعداد الأمازيغ في صعيد مصر بعد القرن الحادي عشر الميلادي، ولكن لم ترد في المصادر العربية إشارة مباشرة إلى استقرارهم في السودان. لكن وردت بعض الإشارات التي وضحت العلاقات بين قبائل الأمازيغ ومملكة مقرة المسيحية في السودان. فقد ذكر المؤرخ ساورس بن القفع (تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية في مسعد،المكتبة السودانية العربية ص 85) ما يشير إلى وجود بعض قبائل الأمازيغ في مملكة مقرة. فعندما طلب والي مصر من ملك مقرة زكريا الذهاب إلى مصر عام 207 هـ (822 م) لمقبلة الخليفة العباسي بسبب الخلاف حول دفع البقط، أرسل ابنه إلى الخليفة في بغداد وقال "لا أتمكن من مغادرة كرسي لئلا يملكوا البربر المخالفين لي، ويجب أن أنفذ ابني إليه" ويدل ذلك على أن الأمازيغ كان لهم حضور واضح في مملكة مقرة،أو في بلاط الملك.

ولم يرد في المصادر ما يوضح من هم البربر الذين كان يخشى منهم الملك زكريا على عرشه. ربما كانوا أحد فروع لواتة الذين كانوا يتواجدون في منطقة الواحة الخارجة. وربما كانوا من المصامدة الذين قال عنهم ناصر خسرو (سفر نامة في مسعد، ص116) "وإذا سار سائر من مصر إلى الجنوب وجاوز ولاية النوبة بلغ ولاية المصامدة، وهي أرض ذات مراع واسعة، وفيها دواب كثيرة، وسكانها سود كبار العظام غلاظ أقوياء البنية، ويكثر الجند منهم في مصر . وهم قباح الصورة ضخام الجثة يسمون المصامدة يحاربون راجلين بالسيف والحربة ولا يستطيعون استعمال غيرها من الآلات."
وتبدو صلات الأمازيغ بمملكة مقرة طبيعية وامتداَ للعلاقات التي وثقتها المصادر المصرية القديمة والكوشية واليونانية-الرومانية والعربية. وقد ترددت تلك العلاقات ما بين الهجرات والعلاقات السلمية والحربية. ذكر المقريزي (الخطط ص 297) في عام 217هـ (832 م) "غزا ملك النوبة الواحات" وربما كانت الصلات بين الأمازيغ وسكان السودان في ذلك الوقت عميقة لدرجة جعلت ابن سليم الأسواني (مسعد ص 105) الذي يعتبر من أوثق المؤرخين الذين كتبوا عن السودان قال عن البجة "يقال إنهم من بربر" وهكذا كانت العلاقات متواصلة بين قبائل الأمازيغ والسودان، ولعل من أشهر القبائل الأمازيغية التي دخلت السودان واختلطت بسكانه قبل قيام الممالك الاسلامية هي قبيلةهوارة.

قبيلة هوارة الأثر الأكبر لقبائل الأمازيغ في السودان الذي تناولته مخطوطات وأشجار نسب التراث السوداني تمثل في قبيلة هوارة. وأرى أنه من المفيد التعرف على هذه القبيلة قبل دخولها السودان. وقد ذكرنا أن المصادر العربية جعلت الأمازيغ من أبناء حام بن نوح، وبعضها جعلهم ساميين ينتمون إلى عرب اليمن. غير ان ابن خلدون (ج 6 ص 97) بين رأيه بوضوح في أصل الأمازيغ قائلاً: "أما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم أنهم من حمير ومن كندة ومن العمالقة .... وهذه كلها مزاعم والحق الذي شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب"

كما قدم لنا ابنخلدون (العبر ج 6 ص 142. موقع الوراق) تعريفاً لقبيلة هوارة حيث ذكر أنهم يشبهون: "عرب بنى سليم في اللغة والزى وسكنى الخيام وركوب الخيل وكسب الإبل وممارسة الحروب وايلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم قد نسوا رطانة البربر واستبدلوها بفصاحة العرب فلا يكاد يفرق بينهم."

ولم يقتصر الأمر فقط على تشبه قبائل الأمازيغ بالعرب بل درجت المصادر العربية على مخاطبتهم بالعرب والأعراب، فعلى سبيل المثال نجد القلقشندي عندما تعرض لنزوح هوارة من الوجه البحري قال: "أما في زماننا فمذ وُجِّهت عرب هوارة من عمل البحيرة إلى الوجه القبلي" وعن الإمارة في المنوفية ذكر القلقشندي (صبح الأعشى ج 2 ص 53 – 54) "الامرة فيها لأولاد نصر الدين من لواتة ولكن إمرتهم في معنى مشيخة العرب."

فالقلقشندي لم ير شذوذاً أو خطأً في وصف أفراد قبيلتي هوارة ولواتة الأمازيغيتين بالعرب. كما تناول ابن تغري بردي وَفَيات أمراء قبيلة هوارة بنفس الأسلوب فوصفهم بأمراء عرب هوارة. فذكر على سبيل المثال: "عام 790هـ/1388 م توفى تاج الدين اسماعيل بن مان الهواري أمير عرب هوارة ببلاد الصعيد. "وإلى جانب ذلك فقد اتخذت بعض القبائل الأمازيغية التي اختلطت وتزاوجت مع العرب النسب العربي. فقد ذكر ماكمايكل (A History of the Arabs in the Sudan Vol. 1 p 144) أن قبيلة قيس عيلان تزاوجت مع ا لبربر في مصر، وأصبح لدينا فرع كبير من قبيلة لواتة نحو عام 1400م يقولون إنهم سلالة قيس عيلان.

وهكذا فقد تخلت بعض قبائل الأمازيغ عن أصولها القديمة، إما لأنها تزاوجت واختلطت بالعرب كما فعل بعض فروع قبيلة لواتة، أو لأنهم فقدوا لغتهم القديمة ولم تعد لهم لغة غير اللغة العربية مثل قبيلة هوارة التي سنتناول فيما يلي انتشارها في صعيد مصر.

انتشار هوارة في صعيد مصر
بدأ الانتشار المنتظم لقبيلة هوارة في منطقة أسوان نحو منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. فبعد اعتلاء عبد الله برشمبو- كأول ملك مسلم - عرش مملكة مقرة بدأ صراع عنيف بين الأسرة المقُرّيّة المالكة القديمة بمعاونة المماليك من جهة وبين القبائل العربية بقيادة بنو الكنز وقبائل العكارمة والأحامدة من جهة أخرى. فالمماليك في مصر كانوا يعملون على عدم السماح بقيام إمارة أو دولة عربية عربية على حدودهم الجنوبية أو في السودان. وقد كانت من بين شروط المعادة التي فرضها جيش المماليك بعد انتصاره على ملك المقرة ودخوله دنقلة عام 1275 م وحلف عليها الملك الذي جاء على لسانه كما رواها النويري (نهاية الأرب في مسعد، المكتبة السودانية العربية ص 221) "وإني لا أترك أحداً من العربان ببلاد النوبة، ومن وجدته منهم أرسلته إلأى الباب السلطاني"

أدى ذلك إلى إجراء المماليك لبعض التعديلات في الأوضاع الإدارية على حدودهم الجنوبية، ومن بين تلك التعديلات تعيين الجنيد عام 769 هـ / 1367م للإشراف على الطرق المؤدية إلى بلاد النوبة كما عبر القلقشندي (صبح الأعشى مسعد ص 289) حيث قال: "جنيد: شيخ الجوابرة الهكارية بأبواب النوبة" ووضح ابن خلدون من هم الجوابرة الهكارية عند حديثه عن قبيلة هوارة فذكر أنهم: "ظواعن وآهلين ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجازوا لمطة من قبائل الملثمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه افر بقية، ويعرفون بنسبهم هكارة قلبت العجمة الواو كافاً أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف."

وتكاثر بعد ذلك أعداد قبيلة هوارة على أبواب النوبة، ووصف القلقشندي (صبح الأعشى ج 2 ص 53، ج 6 ص 139) نزول واستقرار الأعداد الكبيرة منهم في الصعيد قائلاً: "انتشرت في ارجائه انتشار الجراد، وبسطت يدها من الأعمال البهنساوية إلى منتهاه حيث اسوان وما والاها، وأذعنت لهم سائر العربان بالوجه القبلي قاطبة، وانحازوا إليهم وصاروا طوع قيادتهم" وقدر القلقشندي (القلقشندي، نهاية الأرب ج 1 ص 142) بطون قبيلة هوارة في عصره (القرن الخامس عشر الميلادي) كانت أكثر من ثلاثين بطناً.

ويواصل المقريزي (الخطط ج 1 ص 250) وصف اكتساح قبيلة هوارة لإمارة بنو الكنز في أسوان قائلاً: "ثم زحفَت هوّارة في محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة إلى أسوان (1412م)، وحاربت أولاد الكنز وهزموهم، وقتلوا كثيراً من الناس، وسبوا ما هناك من النساء والأولاد، واسترقوا الجميع وهدموا سور المدينة" ويقول ماكمايكل (ص 331) أن قبيلة هوارة انشأت سلطنة معتبرة في أسوان عندما انتزعتها من الكنوز.

وحافظت قبيلة هوارة على قوتها في صعيد مصر بعد عصر المماليك. فقد تناول الجبرتي (عجائب الآثار ج1 ص 75 و152) الكثير من الحملات التي قادها ضدهم ولاة مصر العثمانيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. ونقل ماكمايكل عن الرحالة بوكوك Pococke الذي زار الونطقة عام 1737م أن أخميم تحت أمير بربري، وذكر أن نوردن Norden الذي سافر على النيل في نفس السنة ذكر أن "أعلى أسيوط بقليل يبدأ وطن العرب يعرفون باسم هوارة، ويملكون أراضي على كلا شاطئي النيل ويدعونهم مواطنو مملكة مروي. والنتماء إلى مروي يحتاج إلى البحث والتقصي، وربما حمل بقايا آثار قبيلة البليميين البجاوية التي كانت جزء من مملكة مروي وكانت منتشرة في المنطقة ما بين حلفا والأقصر قبل دخول المسلمين مصر.
ووجد بوركهارت في القرن التاسع عشر هوارة ما بين أسيوط وقنا واعتبرهم عرباً. وذكر (Travels in Nubia p 531) أنهم سيطروا في القرن الثامن عشر على أعلى مصر وشمال السودان حتى منطقة المحس وأرغموا المماليك على إقطاعهم هذه المناطق، وظلوا أقوياء حتى هزمهم ابراهيم باشا.

هوارة في السودان
تناولت المخطوطات المحلية أخبار قبائل الأمازيغ في السودان باختصار شديد. قال عنهم ود دوليب (Mac Michael, A History of the Arabs in the Sudan, Vol. 2 p 189) "البربر أمة عظيمة من الناس وقبائلهم كثيرة وهم من سلالة العماليق. أغلب قبائلهم في الغرب في جبال السوس وينتشرون في المناطق المجاورة ومنهم زناتة وهوارة وصنهاجة ونبرا وكتامة ولواتة ومديونة وسانة."

وعن هوارة قال صديق الحضرة (Mac Michael, Vol. 2 p 91) انهم "ينتسبون للبرانس، وهم عرب الغرب ونسبُهم إلى قريش" وقد رأينا كيف أن ابن خلدون وضح أنه لا علاقة لهم بالعرب. وقال عنهم (Mac Michael, Vol. 2 p 326 "عندما احتل الأتراك مصر عام 1517م مدوا حدودهم جنوباً حتى حلفا وكانت مراكزهم في أسوان وابريم، ثار همام بن يوسف الصعيدي زعيم هوارة (على المماليك) وأصبح حاكماً على صعيد مصر وجزء من بلاد النوبة حتى حلفا"

ربطت مخطوطات التراث السوداني بين قبيلة هوارة الأمازيغية وبين قبيلة الحضور، فذكر محمود أحمد عمر في مخطوطت أن "هوارة أصلهم حضور" وفي نفس الوقت نسبت مخطوطة الشريف الطاهر في القرن 16م ومخطوطة صديق حضرة في القرن 19م قبيلة الحضور إلى جهينة. وتوضح تلك المخطوطات أن الحضور أتوا إلى السودان من صعيد مصر من المنطقة الواقعة بين أسوان وادفو، وهذه هي المنطقة التي استقرت عليها قبيلة هوارة الأمازيغية وحكمتها منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي وأمتد نفوذها جنوباً حتى شمال السودان.

وقد رأينا كيف أن قبيلة هوارة سيطرت على منطقة صعيد مصر وشمال السودان ولم تنته قبضتها على المنطقة إلا أول القرن التاسع عشر الميلادي على يد إبراهيم بن محمد على باشا. ويبدو أنه لارتباط هوارة اللصيق بمنطقة أسوان والذي دام نحو أربعة قرون ارتبطت قبيلة هوارة في السودان بصعيد مصر وأطلقوا عليهم اسم الحضور كما ورد في مخطوطات التراث.

وقد وضحت مصادر التراث السوداني وجود الحضور في أماكن متعددة في السودان منذ أوائل عصر دولة الفونج. وتتبع ماكمايكل تواجد قبيلة هوارة الأمازيغية في السودان في كتابيه تاريخ العرب في السودان وقبائل شمال ووسط كردفان وكلاهما ترجم إلى اللغة العربية. يقول ماكمايكل في كتابه قبائل شمال ووسط كردفان (ص 257): "في شمال كردفان وفي الصحارى الواقعة غرب دنقلا تتجول قبيلة الهواوير البدوية صاحبة الإبل. وفي وسط كردفان وبالقرب من الأبيض تستقر مجموعة من الناس تعرف بجلابة هوارة، وهؤلاء الجلابة هوارة هم أصلاً فرع من الهواوير."

وإلى جانب هؤلاء أشار ماكمايكل ((A History of the Arabs in the Sudan Vol. 1 p 347, 69) إلى وجود بعض أفراد هوارة في الفاشر وفي بعض مناطق النيل الأزرق كما في قريتي النوبة وألتي. وذكر أن سكان مدينة أربجي قبل أن يدمرها الشكرية كانوا من الحضور. وكان الحضور من العناصر التجارية النشطة منذ قيام دولة سنار. وذكر ماكمايكل أن اسم الحضور في زمانه – بداية القرن العشرين – كان يطلق على التجار غير السودانيين. وذكر أن مؤسس مدينة أربجي حجازي بن معين جد الجليلاب في ود راوة يعرف بالحضري بدل الانتساب إلى جهينة كما تنتسب سلالته، ويرجح ماكمايكل انتسابهم لحداربة شرق السودان لا إلى حضور مصر.
ونواصل



أحمد الياس حسين ahmed.elyas@gmail.com