تاريخ مدينة فاس الامازيغية
الجذور المورية القديمة: ما قبل تأسيس المدينة المنظمة:
قبل ظهور فاس كمدينة إسلامية مُخطط لها، كانت المنطقة التي تقع فيها جزءاً من النسيج الحضاري **للمجتمعات الأمازيغية في شمال إفريقيا... تشير الأدلة الأثرية والتاريخية إلى أن أرض فاس كانت مأهولة بمجموعة من الساكنة تعود إلى العصور القديمة، حيث شكلت نقطة تلاقٍ بين القبائل الأمازيغية المستقرة في السهول والجبال.
- الاستيطان المبكر:
كشفت التنقيبات قرب نهر فاس عن آثار لقرى زراعية و مقابر جماعية تعود إلى ما قبل الإسلام، خاصة في مناطق مثل حمرة (الاسم القديم للموقع)، والتي ارتبطت بقبائل مورية مثل أوربة وفازاز. وكانت هذه القبائل تعتمد على الزراعة والتجارة المحلية، مستفيدةً من خصوبة الأرض ووفرة المياه.
التفاعل مع الحضارات المتوسطية:
لا تُنكر الروايات التاريخية تواصل الموريين مع الحضارات المتوسطية (كالرومان والوندال)، لكن المنطقة حافظت على استقلاليتها الثقافية، ولم تخضع بالكامل للسيطرة الخارجية، مما سمح ببقاء الهوية المورية سائدة.
التأسيس الأمازيغي-الإسلامي: إدريس الأول واستكمال المسار الحضاري
مع وصول المولى إدريس الأول (789 م)، لم تكن فاس "مؤسسة من العدم"، بل كانت تطويراً لمكان ذي جذور عميقة. اختار إدريس، الذي تحالف مع قبائل أوربة المورية، الموقع ليكون عاصمة لدولته الناشئة، مستفيداً من:
الموقع الاستراتيجي
تقاطع طرق التجارة بين جنوب وشمال إفريقيا.
الرمزية التاريخية:
ارتباط الأرض بالذاكرة الجماعية للموريين، مما أعطى الشرعية السياسية لدولته.
بنى إدريس عدوة الأندلس على الضفة اليمنى للنهر، بينما أضاف ابنه **إدريس الثاني عدوة القيروان على الضفة اليسرى (808 م)، ووحدهما لاحقاً، مُشكِّلين نواة المدينة. لكن الروح المورية بقيت حاضرة في:
التنظيم القبلي:
استمرار هيمنة تحالفات القبائل الأمازيغيةعلى الحكم المحلي.
التسميات الأمازيغية:
مثل اسم "فاس" نفسه، الذي يُرجعه الباحثون إلى الجذر الموري فازاز" (اسم المنطقة الجبلية) .
فاس تحت الحكم الأمازيغي: من المرابطين إلى المرينيين
حتى عندما حكمتها دول ذات أيديولوجيات إسلامية جامعة، ظلت فاس مركزاً للثقافة المورية-الإسلامية:
1. المرابطون (أمازيغ صنهاجة):
- حوّلوا فاس إلى مركز عسكري وعلمي، مع الحفاظ على الطابع المعماري الموري في بناء الأسوار والأحياء.
2. الموحدون (أمازيغ مصمودة):
- ازدهرت تحت حكمهم الصناعات التقليدية (كالفخار والنسيج)، التي اعتمدت على مهارات الحرفيين الموريين.
3. المرينيون (أمازيغ زناتة):
- بلغت المدينة ذروة مجدها في القرن الـ14، مع بناء فاس الجديد (فاس البالي)، الذي جمع بين الهندسة المورية (مثل الزخارف الهندسية) والتأثيرات الأندلسية.
- شُيدت **المدرسة البوعنانية** كرمز للعمارة المورية-الإسلامية، مع استخدام الآجر المنقوش والخشب المحفور بأساليب محلية.
الأمازيغ وفاس: إرث لغوي وثقافي غير منقطع
رغم التحولات السياسية، حافظ الموريون على بصمتهم في المدينة عبر:
-اللغة:
بقيت اللهجة الأمازيغية (التاسوسيتية) لغة التخاطب في الأرياف المحيطة بفاس، كما دخلت مصطلحات أمازيغية إلى اللهجة العربية المحلية (مثل "أگورام" بمعنى الحصن).
العادات:
الأزياء:الجلباب المزين بالنقوش، والحلي الفضية ذات الرموز المورية.
-الموسيقى: طقس "الطربوش" و"أحيدوس"، مع إيقاعات تُجسد الذاكرة الجماعية.
- الذاكرة الشعبية:
حكايات "الشايفة" و"أمغار" (الشيوخ الحكماء)، التي تُروى في أزقة المدينة القديمة
الاستعمار ومحاولات طمس الهوية: الصمود الموري
خلال الاحتلال الفرنسي (1912–1956)، حاولت السلطات الاستعمارية تصوير فاس كمدينة "عربية إسلامية" بمعزل عن جذورها المورية، لكن المقاومة الثقافية تجلت في:
-الحفاظ على المخطوطات الأمازيغية في مكتبات القرويين.
-انتفاضات القبائل المورية في الأطلس المتوسط ضد التهميش.
ما بعد الاستقلال: إحياء الهوية المورية
منذ أواخر القرن العشرين، شهدت فاس تحولاً في الاعتراف بالهوية المورية:
-دستور 2011:
الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية، مع إدراجها في لافتات الشوارع والمدارس.
-المهرجانات الثقافية:
مثل "مهرجان فاس للثقافة الأمازيغية"، الذي يُعيد إنتاج الرموز التراثية (كالحناء والطبخ التقليدي).
الأبحاث الأكاديمية:
كشفت دراسات حديثة عن دور الموريين في تأسيس نظام الري ("الخطارات")، الذي لا يزال يُستخدم في واحات فاس.
الخلاصة: فاس مدينة مورية متجددة
ليست فاس مجرد "هدية" من المولى إدريس الأول للحضارة الإسلامية، بل هي نتاج تراكم ثقافي موريٍّ عريق، بدأ قبل الإسلام بقرون. المدينة، برغم تحولاتها، تظل شاهدةً على إبداع شعبٍ صاغ هويته عبر التفاعل مع التاريخ، دون أن ينفصل عن جذوره. اليوم، تُعيد الأجيال الجديدة اكتشاف هذا الإرث، ليس كتاريخ منقرض، بل كرسالة حية للعالم: أن المدن العظيمة تُبنى حين تكون الجذور عميقة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق