دادس، إشكالية التسمية
محمد العمراني *
الطبونيميا لغة، كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية « Topos » وتعني « الوجه » و »الأديم ». وقد ترجمت إلى العربية في صيغتين وكلاهما منسوبة إلى الجمع وهما: « المواقعية » و « الأماكنية ». فالطبونيميا إذن مادة لغوية فطرية وغريزية إذ لا نجد جهة من المعمور دون أسماء لأماكنها وتضاريسها وأشكالها، فهي إذن فعل نفسي أوّلي وثقافي وإنتاجي بعد ذلك. كما أن دراسة وتفكيك تعابيرها ومعانيها من شأنه إضافة مادة أساسية وأصيلة للمادة التاريخية والجغرافية والاقتصادية بل والسياسية أحيانا. وهذه جوانب غالبا ما قل تدوينها والاهتمام بها من لدن الواصفين والإخباريين الذين اعتمدت كتاباتهم كمصادر للبحث العلمي.
لذلك يعتبر الاهتمام بهذا الجانب المعرفي جزءا من الموروث الثقافي واللغوي بل هو اهتمام بالتاريخ الاجتماعي الذي يعد جانبا أصيلا وأساسيا في تاريخ الشعوب؛ سيمكن من بناء وحدة معرفية وتاريخية متكاملة.
وكباقي أسماء المناطق والواحات المغربية، وخصوصا منها الجنوبية التي تعتبر الكتابات التاريخية حولها جد ناذرة، تعتبر واحة » دادس » من بين هذه التي فرض اسمها اختلافات متباينة في معناه والدلالة التي يحملها. ذالك لأن اللغة، واللغة الأمازيغية بالخصوص -التي هي لغة أهل الواحة- تتعرض دائما للتحريفات والزيادات والنقصان عبر تقدم الزمن وباختلاف المكان (وذلك راجع بالأساس لقلة الاهتمام التاريخي والأكاديمي بها). ما يولّد عدة اشتقاقات أخرى لنفس الإسم تختلف على مستوى النطق بأشكال طفيفة، ومتباينة تارة أخرى. لكن تحيل إلى معان مختلفة تماما، وقد لا تربط بينها أية دلالة أحيانا. ما يصعّب على الباحث مأمورية إيجاد الجذر الأصلي للكلمة؛ في ظل هذه التفرعات والتنوعات التي تعرفها اللغة. الشيء الذي جعل بعض الباحثين يتغاضون الطرف عن الخوض في دلالة هذا الطوبونيم، ويكتفون بعبارة: « أما معنى إسم دادس فبقي غامضا » (محمد حمام، 2002).
ما معنى لفظ « دادس » ؟ وما هو أصله إذن ؟
لقد كشفنا من خلال بعض المصادر والمراجع والرواية الشفوية، عن أجوبة مختلفة لهذا السؤال؛ حيث وجدنا أن هذا الإسم يرد على شكل عدة صور متباينة النطق كالتالي: Badis، Da-ttc، Datas، Da-tss، Dads. ولكل واحد من هذه الأسماء دلالة مختلفة عن الأخرى، على الأقل في اللغة الأمازيغية المتداولة بالمنطقة (واحة دادس).
وإذا حاولنا استقصاء معان هذه الإشارات التي أمدتنا بها الرواية الشفوية بالمنطقة على التوالي، نجد أن لفظة Badis ترتبط بأصول عربية. فالذاكرة المحلية تجعل الولي « أباعمران » أول مستقر بالمنطقة، حيث أتى إليها بعد وفاة إدريس الثاني هربا من بني العافية، وتضيف الرواية الشفوية أنه حينما قدم الولي للمنطقة وجدها عبارة عن غابات كثيفة الأشجار وبها العديد من الحيوانات المتوحشة، فإذا بكلابهم التي كانت تجوب الواحة أتت عائدة إليهم وأرجلها مبللة بالمياه، ما أثار انتباه أبي عمران، وأفراد من قبيلة سدراتة التي استقدمها معه من الأطلس المتوسط. فاقتفوا آثار الكلاب حتى وصلت بهم إلى نهر غزير المياه، فنطق أحد أتباع الولي: « ها هو واد الكلب ». الأمر الذي لم ينل إعجابه، ورد عليهم قائلا: « سيكون إنشاء الله واد بادس ». ومع التداول أصبح: واد دادس.
وتتساءل الأستاذة فاطمة عمراوي في كتابها عن المنطقة: إذا كانت ما تورده لنا الرواية الشفوية صحيحا، فهل كان الشريف الإدريسي يقصد مدينة « بادس » التي نجدها لدى البكري وصاحب « الاستبصار » والمعروفة بخيراتها المائية والزراعية، وبدورها التجاري الهام ؟ (فاطمة عمراوي، 2007).
وما يضفي على هذه الرواية بعض الموضوعية، هو أن العديد من أسماء الأماكن بالمنطقة منسوبة حسب الرواية الشفوية دائما، إلى هذا الولي، ومن ضمنها قبيلة اليهود التي علم بتواجدها بمقربة من المنطقة التي استقر بها حينما أعلمه أصحابه بأمرها، فأجابهم قائلا: » تِيلْيِيتْ « ، أي : فَل تَكُنْ . وهو الإسم الذي تحول مع التداول إلى » تِييْلِيتْ » اسم الملاح الذي لازالت أطلاله بادية إلى حد اليوم، والذي غادرته ساكنته اليهودية منتصف ستينيات القرن الماضي. إضافة إلى اسم إحدى قبائل المنطقة التي تقول الساكنة المحلية أنه مستمد من نفس المصدر السابق، إذ حينما أتى الولي أبو عمران للمنطقة، جاء برفقة بعض الأشخاص المرافقين له، من جهة الشمال باتجاه الجنوب، فبدأ باستكشاف مجال الواحة، وفي لحظة من اللحظات أمر فرقة من رفاقه باستكشاف الضفة اليسرى من الواد بقوله لهم : « زْلْيَاتْنْ Zlyatn »، أي توجّهوا جهة اليسار. ومن هذه العبارة استمدت إحدى القبائل المتواجدة على الضفة اليسرى للوادي اسمها، وهي قبيلة « أزْلآكْ Azlag ».
بينما يضيف الأستاذ محمد المنوّر أن للكلمة أصلا أمازيغيا، فواحات الجنوب التي تعرف تنظيمات اجتماعية محكمة، كانت توظف حرّاسا لمراقبة البساتين، خشية اعتداءات المارة على الغلل والمنتوجات التي تزرع بالمشارات الزراعية، إلا أنهم لا يمنعون أحدا من الأكل من ثمرات المنطقة خاصة منها التّين (Tazart) شريطة أن لا يحملها معه، فتم إطلاق عبارة تحيل إلى هذا الوضع على المنطقة بأسرها، وهي: Da-ttc أي « هنا كل » (محمد المنور، 1975).
وفي مقاربة أخرى لفهم معنى دادس – وفي اعتقادنا الشخصي – فإن محاولة البحث عن طوبونيم منطقة معينة لا يجب أن يتم إلا بربطه بالمجال الواسع لها والذي تنتمي إليه. وفي حالتنا هذه فالواحات الأكثر قربا من واحة دادس هي واحات « درعة »، « إميضر » و »غريس ». فإذا علمنا أن سلسلة جبال الأطلس الصغير تفصل بين واحات درعة ودادس، وأن اسم درعة كما وردت لدى بلين الشيخ (Pline L’Ancien) هو: دَرَتْ Darat ، بمعنى: الخلف، أو المنطقة الخلفية. فإننا قد نرجح اسم Datas الذي يعني: أمامه أو الأمام، كأصل لعبارة دادس. حيث استبدلت التّاء بحرف الدّال، بسبب تحوير في طريقة النطق. فتكون بذلك واحات درعة خلف سلسلة جبال صاغرو (الأطلس الصغير)، بينما واحة دادس أمامه باتجاه الشمال أي Datas !.
وتعزز الأستاذة صفية العمراني هذا الطرح، أي أن إسم دادس مشتق من الكلمة الأمازيغية « Datas »، ففي النطق الصنهاجي الذي ينتمي إليه أهل دادس، تعني أمامه. أي أمام جبل « درن » من الجهة الشرقية أي قبلته التي عممها مؤلفو المصادر التاريخية. وترجح بذلك اسم « القبيلة » على أساس أنه اللفظ الغالب عند المؤرخين والإخباريين، الذي يحدد عادة بين الفيجة (الجنوب) وتافيلالت (صفية العمراني، 2002).
ويبقى افتراض آخر نربطه كذلك بعلاقة اسم دادس بأسماء الواحات المجاورة لها، فإسم Da-tss يعني كترجمة حرفية للمعنى: تُسْقَى، من السّقي أو الرّي. أي أن المنطقة كانت تتوفر على مياه غزيرة تسقي أراضيها، وهي الإفادة التي تلتقي مع أسطورة الولي أباعمران الذي وجد المنطقة عبارة عن غابات ومجالات خضراء بسبب كثرة مياهها الجارية. إضافة إلى أن اسم واحة « غريس » قد يكون منبثقا من اسم « أكْرِيسْ Agris » أي الثّلج، (وهو في الحقيقة اشتقاق لا يورده الأستاذ: بن محمد قسطاني، في مؤلفه عن هذه الواحة (2005) ). وكذلك نجد واحة إِمِيضْرْ أو تِيَمَاضْرْوِينْ، التي تعني: مكان تجمّع الماء. وكلها أسماء تشترك في شيء واحد وهو: الماء؛ الذي شكل وما زال عصب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في وادي دادس، ذلك أن الفلاحة هنا لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بالسقي. وهذا الأمر يفسر إلى حد بعيد استقرار السكان على جنبات الوادي للاستفادة من مياهه الجارية والباطنية.
وقد يكون اسم الواحة مستمدا من « جبل دادس » الذي أورده الوزّان في حديثه عن المنطقة: « دادس هو الأخر شاهق بارد مكسو بالغابات، يبتدئ غربا عند جبل مغران وينتهي في تخوم جبل أدخسان كما يتاخم جنوبا سهل تدغة « . وفي إشارة أخرى يأتي الإسم بصيغة الجمع في حديثه عن جبل « سڭيم » : « .. ويتاخم جنوبا جبال دادس .. « . وهو الذي تحيط به صحاري تسكنها بعض القبائل المعقلية التي وفدت إلى المنطقة » … تسكن روحة، وهم فرع من مختار، الصحاري المجاورة لدادس وفركلة … ».
كما يأتي اسم دادس مقرونا بكونه بلدا أو بلادا؛ ففي العديد من الوثائق المحلية نجد هذا الاسم حاضرا على هذا الشكل: » وهو عمران ابن المولى إدريس الأزهر ابن المولى إدريس الأنور… دفين بلد دادس … » ، » أشهدت جماعة آل الصور بتدلي بني ووزكة … في بلاد دادس … » ، « خمسة قناطير من مدينة مراكش وصرفت بأربعة قناطر من بلاد دادس بميزان الحدادين ». كما تشير وثائق أخرى كثيرة إلى إسم « أهل دادس »، ونفس الأمر في بعض المصادر التاريخية الأخرى.
– خلاصة:
لقد كانت الرغبة من وراء اعتمادنا على كل هذه المقاربات، وضع الأصبع على إشكال مهم في تاريخ المنطقة، لأن فهم معنى لفظ « دادس » يعتبر إشكالية رئيسية في اعتقادنا، ذلك أن اعتماد أي صيغة من هذه المفاهيم السابقة، هو بحد ذاته مؤشر مهم على فهم أولا بوادر الاستقرار بالمنطقة، هل لكونها مجالا خصبا يوفر ظروف الاستقرار؟ أم مجالا جبليا استعانت به قبائل سدراتة المناصرة للشرفاء الأدارسة، والنازحة إليه هروبا من بني العافية ؟ أم أنه مجرد تصور للمجال يجعل الواحة أمام سلسلة جبال صاغرو، عكس واحات درعة التي توجد خلفها ؟ أم أنه بلد كباقي بلدان الجنوب… إلخ. وكلها أسئلة مشروعة في ظل غياب بحث أركيولوجي معمق، يساعد على فهم أولى بوادر الاستقرار بالمنقطة، والشاكلة التي ثم بها.
*- محمد العمراني. طالب باحث في علم الاجتماع والتاريخ.
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني، المحمدية
المصدر
http://www.dades-infos.com/?p=19581
0 التعليقات:
إرسال تعليق